الإنسان بطبعه يحتاج إلى المعلومة أيا كان مجالها ونوعها. فهو قديما بحث عنها في أبيات الشعر الجاهلي، وتناقلها بطريقة بينية في المحادثات الشفهية، وما لبثت أن تطورت هذه الحاجة فتمخض عنها ظهور وسائل الإعلام. هذه الوسائل استفادت من ظهور صناعة الورق والطباعة فالراديو ثم السينما، وهكذا ظهرت الجرائد الورقية وإذاعات الراديو وقنوات التلفزيون.
ظهور الإنترنت وتضاعف المحتوى والإمكانيات الهائلة التي تتيحها جلب اهتمام وسائل الإعلام التقليدية، فصارت الإنترنت أحيانا موضوعا للخبر، وأحيانا أخرى فرعا من الفروع، فاهتمت الجرائد والإذاعات والقنوات بفتح مواقع لها على الشبكة، بل ظهرت مؤسسات الإعلام الجديد متخصصة وصحافة إلكترونية متطورة جدا عن الصحافة التقليدية حتى في الصحافة العربية مثل الجريدة الالكترونية الخبر انفو وهسبريس في المغرب، وعمون في الأردن، ونواة في تونس. بل إن قراء بعض النسخ الالكترونية الجادة أكثر من قراء النسخ الورقية (جريدة المصري اليوم مثلا). ولن نبالغ إذا قلنا أن حجم التحدي الذي يفرضه "الإلكتروني" على "الورقي" كبير جدا، قد يهدده بالإغلاق وتراجع المبيعات، وقد حدث هذا فعلا في الولايات المتحدة الأمريكية حيث أغلقت بعض الصحف الورقية العريقة واكتفت بنسخ إلكترونية فقط (حالة كريستيان ساينس مونيتور مثلا).
التدوين: صوت الشعب الجديد
الانترنت تتطور بشكل سريع جدا. وظهر الآن ما يعرف بالجيل الثاني من الإنترنت، أو ما يصطلح عيه بالويب 2.0. ويقوم على مبدأ تغير وضعية المستخدم من مجرد مستقبل للمعلومة إلى شريك في صناعتها. وأهم تمظهر لهذه الوضعية الجديدة هي ظاهرة التدوين (أو الصحافة الشعبية أو صحافة المواطن).
وهكذا صار بإمكان المواطن العادي الذي يستخدم الانترنت فتح صفحة خاصة على الشبكة، متاحة بشكل مجاني غالبا، ويمكن له أن يضع فيها ما يشاء من محتوى سواء أكان نصا أو صورة أو صوت أو فيديو (أو أن يمزج بين نوعين من الملفات أو أكثر في كل تدوينة). كما يمكن له أن يسمح بالتعليقات وأن يتحكم فيها أو يرد عليها. وان يملأ كل تدوينة بروابط تحيل إلى صفحات ومواقع أخرى ذات صلة بالموضوع وتمكن القارئ من الانفتاح والتوسع. والجميل في الأمر أن المدون يستفيد من سهولة الاستعمال والنشر الذي لا يتطلب معرفة تقنية كبيرة، وحرية الرأي فالمدون هو رئيس التحرير.
انتقادات الصحفيين المهنيين
في حقيقة الأمر هذه الانتقادات، والتي تكررت على مسامعنا خلال الدورة الإقليمية للصحفيين والمدونين من أجل حقوق الإنسان في بيروت، هي التي كانت بالنسبة لي حافزا لأكتب هذا المقال، وأن أدلو بدلوي في موضوع العلاقة الممكنة ما بين التدوين والصحافة.
وهنا لابد أن أشير إلى أنه لا يكفي أن نشاهد فضائح النجوم وفتيات المدارس على اليوتوب، وأن نتجول في مدونات المراهقين وصورهم المنشورة في skyblog حتى نحيط بظاهرة التدوين في المغرب مثلا، ونكتب عنها تقريرا صحفيا يكون مملوءا بالأحكام المسبقة والمغالطات. فالظاهرة رغم أنها في المرحلة الجنينية إلا أنها تعرف إقلاعا كبيرا، وقد تمكن المدونون في حالات كثيرة من التأثير في واقعهم عبر انتقاد الفساد وتوفير أدلة على ذلك (حالة وائل عباس في مصر والذي نشر مقاطع فيديو لحالات التعذيب في مخافر الشرطة المصرية وقناص تارجيست الذي فضح رجال الدرك الملكي وهم يتلقون رشاوى مثلا).
كثيرا ما نسمع من بعض الصحفيين (بعيدون عن عالم المدونات غالبا) اتهامات موجهة إلى "حزب" المدونين، وتصفهم بعدم المسؤولية وتشك في مصداقيتهم ومصداقية الأخبار التي يتناقلونها. وتدعي أن المدون ليس بصحفي والتدوين لا علاقة له بالصحافة. هنا بالضبط يجب التفريق ما بين التدوين الجاد وغيره. فالمدون الجاد وإن لم يكشف عن هويته أحيانا لأسباب أمنية، يهمه بناء علاقة ثقة بينه وبين القارئ، وبالتالي فالمصداقية بالنسبة له أولوية ومسألة شرف. وقد حاول المدونون الجادون تنظيم أنفسهم في إطار شبكات قطرية (تجمع المدونين المغاربة مثلا) وعربية (اتحاد المدونين العرب)، وتبني قوانين ومواثيق شرف أحيانا مماثلة للصحافة المهنية مثلما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية.
أما القول بأن المدون ليس بصحفي مهني، فهذا الأمر بالنسبة لنا صحيح رغم أن نقابة الصحفيين المصريين قررت قبول المدونين ضمن صفوفها. على الأقل هو ليس بصحفي تقليدي، وإن اشتركا معا في خانة "ناقلو الخبر". كما يختلف التدوين عن الصحافة التقليدية في وسيلة الاتصال بالناس (المدونة )، ومن حيث التدوين نشاط طوعي وغير ربحي (مع استثناءات خاصة)، وكذلك في تقنيات النشر والكتابة التي تقترب من الصحافة الالكترونية لكنها أكثر حميمية وأكثر قربا وتغاعلا.
من أجل علاقة صحية
التدوين ظاهرة جديدة ومتطورة باستمرار، وهذا في رأينا هو السبب وراء الارتباك الحاصل والضبابية التي تحيط علاقة التدوين بالصحافة. لكن ما يهمنا اليوم هو البحث عن تقريب التدوين من بعض الصحفيين الذين يرون فيه عدوا ومسيئا للمهنة.
أما طرح سؤال (هل المدون صحفي؟)، هو في نظرنا نقاش عقيم "un faut débat "، والأجدر بنا طرح تساءل أخر أكثر إيجابية وهو كيف يمكن تطوير أشكال الدعم المتبادل بين الصحفي والمدون، أي بين الإعلام التقليدي والإعلام الجديد؟.
نحن نعتقد أن المدون هو شريك للصحفي، والتدوين هو حليف للصحافة، والعلاقة بينهما هي علاقة تعاون واستفادة مشتركة. وقد صدق احد المدونين الأجانب حين شبه الصحافة بفرس النهر، لكنه يحتاج إلى العصفور الصغير الذي يجلس على ظهره ويقوم بتخليصه من الشوائب والتي تشكل في نفس الوقت تغذيته. هذا العصفور هو المدون.
وقد أبثت التجربة أن الصحافة كانت دائم في طليعة المدافعين عن المدونين، ونجد المدونين في طليعة المدافعين عن الصحافيين متى هددتهم الرقابة والأحكام الجائرة. ولنا في حملات التضامن الالكترونية التي واكبت محنة جريدة أخبار اليوم في المغرب خير مثال.
كما يمكن تبادل الجمهور بين الإعلامين التقليدي والجديد. مثلا عبر خلق مواقع الكترونية للجرائد الورقية، لكن يلاحظ أن بعض الجرائد الورقية تلجأ لإنشاء مواقع لها على سبيل تسجيل الحضور ليس إلا، وشكلا من أشكال الوجاهة الإعلامية فقط، وهذا حال جل الصحف المغربية. ويمكن اللجوء إلى نقل بعض مقالات المدونين وإدراجها ضمن الجرائد الورقية، وهو ما يحصل في الجرائد المغربية، أحيانا بدون استشارة المدون. ولا يمانع غالبية المدونين حدوث هذا الأمر، لكن يجب على الأقل الإشارة إلى اسم ورابط المدونة.
كما تشكل المدونات والحركية الرقمية مصدرا من مصادر الخبر بالنسبة للصحفي، وهما معا معنيان بقضايا دعم قضايا الإصلاح السياسي والتغيير الديمقراطي والنضال من أجل حقوق الإنسان في المنطقة العربية خصوصا، وتقديم الخبر والمعلومة للمواطن من أجل المساهمة في صناعة الرأي العام، وهذا هو المهم.
نشر المقال في موقع شبكة صحفيون ومدونون من أجل حقوق الانسان وقد أجريت عليه بعض التعديلات في الفقرة الأخيرة.