لا زلنا نعاني من
مشكلة بلورة خطاب مقبول من الإعلام، مفهوم من المجتمع، وقابل للترجمة من الحكومات
فيما يتعلق بالحق في الصحة (1)، حتى أن مراكزنا الصحية تبدو غريبة عن محيطها، وان
موضوعة الصحة تبقى حكرا على المهنيين، بل الأدهى من ذلك، كثيرا ما يقع المجتمع
ضحية التضليل الذي قد يمارسه الفاعلون الرسميون وغير الرسميون على السواء.
والتضليل – كما قال الشهيد عمر بن جلون - هو أخطر أنواع الإرهاب.
من الأمثلة التي
يمكن أن نصوغها حول ذلك هي حكاية مقالات وبيانات بعناوين ذات نفس اجتماعي، تدغغدغ
عواطف الجماهير، لكن امتلاك أبسط أدوات التحليل والمعرفة بالسياق التاريخي ولطبيعة
صراع المصالح في "سوق" الصحة، يجعلنا نكتشف حجم المؤامرة وألغام التضليل،
كيف لا، والكاتب (باطرون) والكلمات المدبجة تدافع عن مصالح أقلية وعن ديمومة
منظومة الريع والاحتكار.
في مستنقع اعلامنا
المغربي، نبتت مؤخرا جبهة للدفاع عن الصحة كمرفق عمومي وخدمة اجتماعية، تقول لا للاتجار
في صحة المواطن، وترفض مشروع تحرير قطاع الصحة في وجه المستثمرين الخواص، مكونة من
حوالي 27 هيئة في توليفة غريبة تجمع الباطرون والعامل وبجانبهم الفنان والحقوقي
والجمعوي، حيث أصدرت بيانا بتاريخ 03 أكتوبر 2013 فكرته العامة رفض مشروع تعديل
القانون 10-94 المنظم لمهنة الطب في المغرب والسماح للمستثمرين الخواص بفتح مصحات.
وحتى أكون دقيقا أكثر، لقد تكونت هذه الهيئة من أجل رفض التعديل المقترح وإبقاء
الوضع على ما هو عليه.
قد يقول قائل: ما
العيب في هذا الكلام، لهؤلاء أقول : صبرا حتى نحلل سند الحديث ومتنه والسياق الذي
جاء فيه، ونعمل على بسط تحليل مفاده أن الفرضية الموضوعة في عنوان البيان باطلة أو
غير متماسكة في أحسن الأحوال، فقديما قال المغاربة (يا المزوق من برا اش اخبارك من
الداخل).
الانطلاقة الخاطئة
"ينطلق"
البيان المزعوم من المرجعيات الحقوقية الدولية والوطنية. في البداية يستدعي الإعلان
العالمي لحقوق الانسان والعهدين الدولية للحقوق السياسية والمدنية والحقوق
الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، دون أن ينتبه أن هذه المرجعيات لا ترفض خوصصة
قطاع العلاجات الصحية لأن المرجعية الدولية لحقوق الانسان محايدة سياسيا
وإديولوجيا، وأن الحق في الصحة فيها جاء بصيغة هلامية "تهيئة ظروف من شأنها
تأمين الخدمات والعناية الطبية للجميع في حالة المرض" (2).
ثم يستدعي بيان
الجبهة الدستور المغربي الذي قال في باب الحريات والحقوق الأساسية، الفصل 31:
"تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل
المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات، على قدم المساواة، من الحقوق
التالية: العلاج والعناية الصحية، الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، والتضامن
التعاضدي أو المنظم من طرف الدولة".
إن النصوص السابقة
لا يمكن أن تدعم البيان بقدر ما يمكن استخدامها حجة ضده فالسماح للرأسمال الوطني
بالاستثمار في قطاع الصحة الربحي هو تعبئة وسيلة متاحة من أجل تيسير اسباب استفادة
المواطنين من العلاج، (انظر فقرة نظرة أخرى للأثر المتوقع من نفس المقال)،
وبالتالي فالانطلاقة كانت خاطئة أو كما يقول المغاربة "من الخيمة خرج
مايل".
مبررات الرفض
يستمر نفس البيان (الفقرة
الثالثة) في الحديث عن رفض فتح الباب على مصراعيه أمام الاستثمار التجاري في
الصحة، مما سيؤدي إلى تبضيع صحة المواطن، والضرب بعرض الحائط كل الضوابط والأخلاقيات
المؤطرة للممارسة الطبية. كما سيتحدثون في مقال اخر (3) عن اتساع جبهة الرفض
لمشروع تحرير قطاع الصحة وفتحه في وجه المستثمرين الخواص، وكأن المغرب لا يوجد به
قطاع خاص ربحي في مجال الصحة، فكل المستشفيات مؤممة ويزينها العلم الشيوعي الأحمر
بالمنجل والمطرقة.
هنا المجتمعون في
الجبهة من رفاق وباطرونا لا يكذبون علينا، إنهم ليسوا ضد الخوصصة (اغلاق الباب)،
انهم مع "ترشيد الخوصصة" (ترك الباب مواربا)، وعدم فتحها لعموم
المستثمرين الخواص (فتح الباب على مصراعيه). بعبارة أخرى، إنهم يدعون الى ابقاء
الأمور كما هي عليه الان، أي الابقاء على احتكار الأطباء المقاولين والميسورين
لامتلاك المصحات الخاصة.
أما القول بأن
المشروع سيؤدي إلى تسليع الصحة وتراجع أخلاقيات مهنة الطب وانتهاك حق المواطنين في
الولوج الى العلاجات الضرورة فصراحة ينقصه الاطار المنطقي الرابط، بل أحيانا يوقع
أصحابه في مزايدات خاوية. ومحاولة تشخيص الواقع المزري للمصحات الخاصة التي
يمتلكها الأطباء المقاولون الميسورون في
المغرب يعطينا الجواب، وما فضيحة توقيف الوزيرة ياسمينة بادو ل 13 مصحة خاصة ببعيد
عن الذاكرة.
إذن، وحسب فهمنا
للأمور هنا، لا تتعلق المسألة بالاختيار بين الخوصصة أو التأميم، بل حول الاختيار
ما بين خوصصة وريع، بين حرية مبادرة واحتكار.
نظرة أخرى للأثر
المتوقع
السماح للرؤوس
الاموال الوطنية للاستثمار في المصحات الخاصة قد يشكل تهيئة لظروف من شأنها تأمين
الخدمات الطبية، وتعبئة للقطاع الخاص لتيسير اسباب ولوج المواطنين إلى العلاج،
خاصة إذا عمل المستثمرون على خلق مؤسسات علاجية في مناطق المغرب حتى لا يبقى أزيد
من 50 في المائة من الأطباء العاملين في القطاع الخاص متمركزين في جهتي الرباط
والدار البيضاء (4).
إلى جانب ذلك، فإن
ازدياد أعداد المصحات الخاصة سيمكن من تشغيل الأطباء والممرضين المعطلين، فالوزارة
تخطط لتكوين أزيد من 3300 طبيب سنويا في أفق 2020 (4)، وتخرج معاهد التكوين
العمومي أزيد من 300 ممرض سنويا دون احتساب خريجي التقنيين المتخصصين في التمريض
من خريجي معاهد التكوين المهني الخاصة، كما أن المناصب المالية لوزارة الصحة لم
تتعد في أحسن الحالات 2000 منصب مالي مشترك في جميع قوانين المالية خلال السنوات الأخيرة.
باستحضار هذين
العاملين، كيف يمكن رفض تعديل قانون سيمكن من توزيع جغرافي أحسن للعرض الصحي الخاص
وسيمكن من امتصاص بطالة الأطر الطبية وشبه الطبية؟
مقاربة تجزيئية
للحق في الصحة
الفقرتان 4 و5 من
بيان الجبهة تقدمان تشخيصا أسودا لحالة قطاع الصحة في المغرب، حيث تمت الاشارة إلى
غياب الارادة السياسية للنهوض بالقطاع الصحي وتردي الاوضاع وتفاقم العجز وفشل
السياسات ونقص الموارد البشرية والمالية، وهو تشخيص نتفق على عناوينه الكبرى.
طيب، ماذا بعد هذا
"النقاش العميق والمسؤول" واستحضار الاشكالية الصحية و"الوقوف على
استمرار تردي الأوضاع" يمر المجتمعون في الجبهة الى اصدار مواقفهم في خمس نقط
جلها تستغرب وتستنكر وتتوعد السيد الوزير في حالة تمرير المشروع والسماح
للمستثمرين بناء مصحات خاصة.
وهنا دعونا نتساءل
باستدعاء نفس منطق هؤلاء، لماذا لا يرفض السادة الاساتذة أن يقوم طبيب بإنشاء
مدرسة خاصة؟ ولماذا لا يحتج الفلاحون اذا اشترى طبيب ضيعة؟
من جهة أخرى، هل
يقف خطر هيمنة نظام السوق التجاري عند المصحات؟ لماذا السكوت مثلا عن تحرير صناعة الدواء
وتعطيل مصنع برشيد؟ وعن خوصصة تكوين
الممرضين والأطباء؟ وعن عمل موظفي القطاع العام في مصحات "مالين
الشكارة" من الأطباء؟
إن مقاربة البيان
هي تجزيئية لوضع الحق في الصحة في المغرب، عبر اختزاله في العلاج الطبي، وفصله عن
محدداته الاجتماعية، وتمويه خص الأسباب البنيوية لفشل القطاع، وتركيز المعركة حول
مطلب استمرار احتكار الاطباء المقاولين للامتلاك المصحات الخاصة، وهي كما نعلم
معركة أقلية، ومعركة خاسرة منذ البداية إذا استحضرنا السياق العام.
ما يؤكد قولنا هو
تصريح أحد نقابات الباطرونا لجريدة وطنية بالقول الذي طالب فيه بتخصيص
"امتيازات ضريبية وتحفيزية للأطباء من اجل تشجيعهم على الاستثمار في هذا
المجال"، وهو، بطبيعة الحال، رأي مرفوض في دولة تكافؤ الفرص وفي مناخ دولي
ليبرالي وفي بلد حسم خياره لفائدة الملكية الخاصة وحرية المبادرة ويسعى لمحاربة
الريع.
تجدر الاشارة الى
ان السماح بالاستثمار في قطاع الصحة لا يعني أن المستثمر هو من سيصف العلاج أو أنه
سيشرف على الامور الطبية، بل هذه الامور ستبقى دائما من اختصاص الأطباء حسب منطوق
مشروع القانون.
يبقى على الدولة
تعزيز الضوابط واليات التتبع والمراقبة في المؤسسات الصحية ذات الغرض الربحي،
وتقنين وتشجيع التعاونيات الصحية ( les coopératives de santé) التي يمكنها ان تساهم
في محاربة التفاوتات وتعزيز الولوج للخدمات الصحية.
إن الأولوية
مرحليا هي لجبهة شعبية يقظة ضد تمرير مشروع استقالة الدولة باعتبارها صاحبة الالتزام
الاول في ضمان الحق في الصحة، وحتى يلعب القطاع الخاص دوره المكمل للقطاع العام
وفق ضوابط، وتتحمل المقاولات مسؤولياتها الاجتماعية كاملة، ولا مجال لتضليل
الأغلبية حتى تدافع عن مصالح الاقلية المستفيدة من الاحتكار.
زهير ماعزي
zohair.maazi@gmail.com
مراجع
(1)
مقال د. فيوليت داغر
(2)
المادة 12 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية
(3)
الاتحاد الاشتراكي ع 1050، ت 22 أكتوبر، ص
الأخيرة.
(4)
مخطوط الاستراتيجية القطاعية لوزارة الصحة
2012-2016.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق